خريطة للانتشار السرطاني تبعث الأمل وتنتظر وضع خطة للعدالة العلاجية

خريطة للانتشار السرطاني تبعث الأمل وتنتظر وضع خطة للعدالة العلاجية
الانتشار السرطاني - أرشيف

في معركة لا تهدأ ضد أحد أكثر الأمراض فتكًا بالبشرية، توصل فريق من العلماء إلى اكتشاف علمي قد يُحدث تحولًا جذريًا في فهمنا لآليات انتشار السرطان، ويمهد الطريق لتطوير استراتيجيات علاجية أكثر دقة وفاعلية. 

ولم تكن الدراسة التي استغرقت 10 أعوام كاملة، مجرد بحث نظري، بل جاءت نتيجة تحليل دقيق لملايين الخلايا السرطانية، وتتبع مساراتها داخل الجسم، ما ساهم في كشف آلية جديدة تُسهم في انتشار الخلايا الخبيثة، والتي لم تكن معروفة من قبل، وهذه النتائج التي تم نشرها مؤخرًا في مجلة نيتشر كوميونيكيشنز تفتح آفاقًا واسعة أمام الأطباء والعلماء لإعادة التفكير في طرق التعامل مع الأورام القاتلة، خاصة في مراحلها المتقدمة.

تُظهر الإحصائيات أن السرطان لا يزال يمثل أحد أخطر التحديات الصحية عالميًا، حيث سُجلت في عام 2022 وحده أكثر من 20 مليون حالة إصابة جديدة، في حين تجاوزت الوفيات الناجمة عن المرض 10 ملايين حالة، وفقًا لمنظمة الصحة العالمية. 

وتُعد هذه الأرقام مؤشرًا واضحًا على الحاجة الماسّة لفهم أعمق للآليات التي يعتمدها السرطان في التفشي داخل الجسم، وهو ما ركزت عليه الدراسة الجديدة وقد تمحور البحث حول تحليل آلاف العينات البيولوجية لمرضى مصابين بسرطانات متعددة، من بينها سرطان الثدي والرئة والبنكرياس والجلد، حيث لوحظ أن الخلايا السرطانية قادرة على استغلال المصفوفة خارج الخلوية المحيطة بها لتعزيز قدرتها على الانتقال إلى أعضاء جديدة.

وفي التجارب المعملية، استخدم العلماء تقنيات متقدمة كالتصوير الحي والمجهر الإلكتروني لدراسة حركة الخلايا السرطانية في البيئات المختلفة داخل الجسم. 

وأظهرت النتائج أن بعض الخلايا تطور ما يشبه "البوصلة البيولوجية"، التي تمكنها من استشعار الإشارات الكيميائية والميكانيكية في الأنسجة، ما يسهل هجرتها إلى مواقع جديدة.

المدهش أن هذه الخلايا لا تكتفي بالتحرك فقط، بل تقوم أيضًا بإفراز بروتينات محددة تُعيد تشكيل بيئتها المحيطة لتسهيل تقدمها، ما يجعلها أكثر قدرة على غزو الأنسجة السليمة.

ومن الناحية السريرية، يكمن التحدي الأكبر في أن أكثر من 90% من وفيات السرطان لا تحدث بسبب الورم الأولي، وإنما بسبب انتقال الخلايا السرطانية إلى أعضاء أخرى، وهي الظاهرة التي تُعرف باسم النقائل السرطانية (Metastasis). 

ولذلك، فإن أي اكتشاف يساعد في فهم هذه العملية ووقفها يمثل خطوة فارقة في جهود مكافحة المرض، ووفقًا للبروفيسورة فيكتوريا سانز-مورينو، الباحثة الرئيسية في الدراسة من معهد أبحاث السرطان في لندن، فإن "ما توصلنا إليه هو بمثابة خريطة ديناميكية تُظهر كيف تستخدم الخلايا السرطانية بنيتها الجزيئية لتتمكن من الحركة بحرية داخل الجسم، وهو أمر قد يساعد في تطوير أدوية تستهدف هذه العملية تحديدًا".

وتُظهر البيانات أن أنواعًا معينة من السرطان تعتمد أكثر من غيرها على هذه الآلية المكتشفة حديثًا. على سبيل المثال، في سرطان البنكرياس، الذي يُعتبر من أكثر أنواع السرطان عدوانية بمعدل بقاء لا يتجاوز 10% بعد 5 سنوات من التشخيص، تم رصد نشاط مرتفع لهذه البروتينات المسؤولة عن الانتشار. 

أما في سرطان الثدي، الذي يُعد الأكثر شيوعًا بين النساء عالميًا، فقد أظهرت الدراسة أن بعض الخلايا تتحول إلى "نسخة شبحية" أصغر حجمًا وأكثر مرونة، ما يجعلها قادرة على التسلل عبر الأوعية الدموية بسهولة فائقة، وهو ما يُفسر سرعة انتقاله إلى الرئتين والعظام.

وعلى الرغم من هذه النتائج المذهلة، لا تزال هناك تحديات كبيرة تواجه تطبيقها على أرض الواقع إذ إن تصميم علاجات تستهدف هذه الآلية يتطلب فهماً أعمق لكيفية تفاعلها مع العلاجات الحالية، مثل العلاج الكيميائي والمناعي. 

كما أن التأكد من عدم تأثير أي علاج جديد على الخلايا السليمة المحيطة يشكل تحديًا آخر، خاصة أن العديد من البروتينات المتورطة في هذه العملية تلعب أيضًا أدوارًا حيوية في وظائف الجسم الطبيعية. لكن مع ذلك، فإن هناك تفاؤلًا متزايدًا بأن هذا الاكتشاف سيمهد الطريق أمام جيل جديد من الأدوية الذكية التي تستهدف الخلايا المهاجرة دون الإضرار بالخلايا السليمة.

وكشف فريق بحثي آخر في جامعة تكساس ساوث ويسترن، في دراسة نشرت في يناير الماضي، عن آلية مشابهة لتعزيز انتشار السرطان، مشيرين إلى أن الخلايا السرطانية تمتلك القدرة على تعطيل "الإشارات اللاصقة" التي تحافظ على استقرار الخلايا السليمة في أماكنها الطبيعية، ما يسمح لها بالانفصال عن الورم الأساسي والهجرة بحرية عبر الدم والسوائل الليمفاوية هذه النتائج تتقاطع مع ما توصل إليه الفريق البريطاني، وهو ما يعزز فكرة أن هناك مسارًا بيولوجيًا مشتركًا يمكن استهدافه علاجيًا.

وتعكس هذه الدراسات مدى أهمية التعاون الدولي في مجال أبحاث السرطان، حيث تتطلب مثل هذه المشروعات الضخمة تنسيقًا بين المختبرات المختلفة حول العالم، بالإضافة إلى تمويل مستدام لدعم الأبحاث طويلة الأمد.

الحق في العلاج

وقالت خبيرة حقوق الإنسان، الأكاديمية، ترتيل درويش، إن أي تقدم طبي يهدف إلى مكافحة السرطان يمثل خطوة مهمة في حماية الحق في الحياة، وهو أحد الحقوق الأساسية المنصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الاكتشاف الجديد الذي توصلت إليه دراسة امتدت لعشر سنوات، والذي يكشف آلية انتشار الخلايا السرطانية في الجسم، يمكن أن يحدث تحولًا جذريًا في استراتيجيات العلاج، لكنه يفتح في الوقت ذاته ملفًا حقوقيًا معقدًا يتعلق بإمكانية الوصول العادل إلى هذه العلاجات.

وتابعت درويش، في تصريحات لـ"جسور بوست"، رغم أن العلم يتقدم بخطى ثابتة نحو فك شيفرة الأمراض المستعصية، فإن الواقع الصحي العالمي لا يزال يعاني من فجوات صارخة بين الدول الغنية والفقيرة، في الوقت الذي يتم فيه الإعلان عن اكتشافات جديدة، يواجه ملايين المرضى في البلدان النامية صعوبات في الحصول حتى على العلاجات التقليدية للسرطان، فما بالك بالأدوية الحديثة التي غالبًا ما تكون محصورة ضمن نطاق الفئات القادرة على تحمل تكاليفها. وفقًا لمنظمة الصحة العالمية، فإن كثيرا من وفيات السرطان تحدث في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل، ما يعكس خللًا كبيرًا في توزيع الموارد الطبية والبحثية.

وقالت درويش، إن تطوير العلاجات الجديدة دون وضع سياسات تضمن إتاحتها للجميع يشكل انتهاكًا لحقوق المرضى، خاصة عندما تتحكم الشركات الدوائية الكبرى في التسعير وتضع براءات الاختراع كحاجز أمام إنتاج بدائل بأسعار معقولة.

اتفاقية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية تلزم الدول بضمان الوصول العادل إلى الرعاية الصحية، لكن الواقع يكشف أن المرضى في الدول الفقيرة غالبًا ما يُتركون دون خيارات علاجية حقيقية.

وقالت إن هناك بُعدا أخلاقيا يتعلق بتمويل الأبحاث الطبية. في كثير من الحالات، تُجرى التجارب السريرية على مرضى من دول فقيرة، حيث يتم اختبار العلاجات الجديدة عليهم دون ضمان حصولهم لاحقًا على الدواء إذا ثبتت فاعليته، هذا يثير تساؤلات حول مدى احترام مبدأ "الإنصاف" الذي ينص عليه القانون الدولي لحقوق الإنسان، والذي يُلزم الدول والمؤسسات الطبية بضمان عدم استغلال الفئات الضعيفة في البحث العلمي دون منحها حق الاستفادة من نتائجه.

وأشارت إلى أن هناك التزاما واضحا على الدول بأن تعمل على إزالة العقبات التي تمنع المرضى من الوصول إلى العلاج، سواء من خلال دعم الأبحاث المستقلة أو عبر وضع آليات تمنع الاحتكار الدوائي، حيث إن ترك السيطرة على علاجات السرطان الجديدة في يد شركات الأدوية الكبرى دون تدخل قانوني وتنظيمي يمكن أن يؤدي إلى استمرار حرمان ملايين المرضى من فرصتهم في الحياة، كما أن الحق في المعلومات يعد جزءًا أساسيًا من حقوق المرضى.

وقالت إن الاكتشافات العلمية، مهما كانت عظيمة، تبقى بلا معنى إذا لم تصاحبها إرادة حقيقية لتكريس الحق في العلاج كجزء من حقوق الإنسان الأساسية، وما لم تكن هناك جهود جادة لضمان العدالة الصحية، فإن كل تقدم طبي سيظل مجرد رفاهية لا يستفيد منها إلا من يملك القدرة على دفع تكاليفها، فيما يبقى الفقراء في مواجهة مصيرهم دون خيارات حقيقية للنجاة.

آلية جديدة لانتشار السرطان

وقال أستاذ علاج الأورام بكلية طب جامعة عين شمس، الدكتور خالد عبدالكريم، إن السرطان يُشكل واحدًا من أكبر التحديات الطبية التي تواجه البشرية، حيث يتسبب في ملايين الوفيات سنويًا ويثقل كاهل الأنظمة الصحية عالميًا، ورغم التطورات الهائلة في مجالات التشخيص والعلاج، لا يزال الانتشار السرطاني من أكثر الجوانب غموضًا وخطورة، إذ يعد السبب الرئيسي وراء فشل العلاجات التقليدية وارتفاع معدلات الوفيات.

وتابع عبدالكريم، في تصريحات لـ"جسور بوست"، لطالما كانت مسألة انتشار السرطان محور اهتمام الأبحاث الطبية، حيث يعتمد نجاح العلاج إلى حد كبير على منع انتقال الخلايا السرطانية من الورم الأولي إلى الأعضاء الحيوية، وما توصل إليه الباحثون في هذه الدراسة يغيّر الفهم التقليدي لهذه العملية، إذ يكشف عن مسارات جزيئية جديدة تلعب دورًا أساسيًا في قدرة الخلايا الخبيثة على الهروب من جهاز المناعة، واختراق الأنسجة المحيطة، والاستقرار في بيئات بعيدة، مكونة أورامًا ثانوية أكثر عدوانية.

وأكد أن أهمية هذه الدراسة، تكمن في أنها توفر أهدافًا جديدة للأدوية، بعيدًا عن النهج التقليدي الذي يعتمد على استهداف الانقسام الخلوي السريع، إذ إن العلاجات الحالية، رغم تقدمها، غالبًا ما تفشل في منع الانتشار، ما يترك المرضى في مواجهة سيناريوهات قاتلة، لكن باستهداف المسارات التي تم اكتشافها حديثًا، يمكن إبطاء أو حتى منع الانتقال السرطاني، وهو ما قد يزيد من معدلات البقاء على قيد الحياة ويحسّن جودة الحياة للمصابين.

وقال إن التحدي الحقيقي لا يكمن فقط في فهم هذه الآليات، بل في تحويل هذه المعرفة إلى علاجات عملية، فغالبًا ما تستغرق الأدوية الجديدة سنوات من التطوير والتجارب السريرية قبل أن تصبح متاحة للمرضى.

وأشار إلى أن المفارقة التي تكشفها هذه الدراسة هي أن فهمنا المتزايد للسرطان لا يزال متأخرًا عن سرعة انتشاره، ما يجعل الحاجة إلى تمويل مزيد من الأبحاث أمرًا ضروريًا. فوفقًا لمنظمة الصحة العالمية، ارتفعت معدلات الإصابة بالسرطان عالميًا بنسبة 30% خلال العقدين الأخيرين، ومن المتوقع أن تتضاعف حالات الإصابة بحلول عام 2050، ما يستدعي استراتيجيات وقائية وعلاجية أكثر فاعلية.

وأتم، يمثل هذا الاكتشاف خطوة مهمة نحو احتواء أخطر جوانب المرض، لكنه ليس الحل النهائي، إذ يتطلب الأمر تعاونًا دوليًا بين الباحثين، وشركات الأدوية، والحكومات، لضمان أن تتحول هذه المعرفة العلمية إلى أدوات علاجية فعالة ومتاحة لجميع المرضى، بغض النظر عن مكان إقامتهم أو وضعهم الاقتصادي. فالسرطان لا يميز بين غني وفقير، وكذلك يجب ألا تكون العلاجات الموجهة امتيازًا لفئة دون أخرى.

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية